تقديم
مما لا شك فيه أن موضوعا كهذا لن يأخذ حقه في مقال قصير علي الإنترنت. بل هو بالأحري يحتاج إلي مجلدات ومجلدات. حتي يلم القاريء بكل جوانبه يجب علينا أولا أن نشرح نظرية التطور بالتفصيل. يستحيل ذلك هنا طبعا نظرا لكم التفاصيل والأبحاث التي دارت حولها ، ولكن ليسمح لي القاريء أن أقدم المختصر المفيد عن النظرية. باقي التفاصيل لها مصادر متعددة ولكني أنصح بصفحة التطور علي الفيسبوك كنقطة إنطلاق لما فيها من كنز قيم من البرامج المرئية والمقالات باللغة العربية (أنقر هنا لزيارة صفحة التطور علي الفيسبوك).
وليسمح لي القاريء أيضا أن أريح خاطره وأهديء من سرائره بأن أوضح من البداية أن نظرية التطور لا تقول:
أن الإنسان أصله قرد أو أن الحياة وإستمرارها وتطورها وليدة للصدفة البحتة.
لم يقل بهذا داروين ولا أي من العلماء اللائي تلوه إلي يومنا هذا ، ولم يحدث أبدا أن كانت هاتان النقطتان من أساسيات أو إستنتاجات نظرية التطور. وبالتالي فإن كل ماورد في أراء بعض مهاجميها عن إستحاله نشأة الحياة وتطورها بناء علي الصدفة البحتة هو باطل لأنه ينفي النظرية بضحض ما لم تقله النظرية أصلا.
أحب أيضا أن أوضح في البداية أن حديثنا سيكون عن التطور والقرأن فقط ، ولن نتطرق إلي الكلام عن الأحاديث النبوية في هذا الصدد ، من منطلق أن أساس الإيمان عندنا كمسلمين هو القرأن ، ولعلنا نفرد لحوار السنة بحثا أخر في المستقبل.
نشأة الحياة علي الأرض
لايقع هذا الموضوع في نطاق نظرية داروين ، بل ينتمي إلي فرع أخر من علم الأحياء يطلق عليه إسم الأبيوجينيسيس (Abiogenesis). والإجابة علي هذا السؤال ، علميا ، غير معروفة بالكامل. هناك أفكار وفرضيات ولكنها كلها حتي يومنا هذا مازالت في طور البحث والتقصي. ولكن من المؤكد أن نشأة الحياة ، علميا ، لم تكن وليدة الصدفة. ما يظنه العلماء هنا أن ظروف المناخ وظروف كوكب الأرض من بلايين السنين كانت مواتية لتكوين الخلية الأولي ، والتي منها إنحدرت جميع سلالات الأحياء التي عاشت علي الأرض منذ نشأتها وحتي اليوم. أحد هذه الظروف ، علي سبيل المثال ، هو موقع الأرض من الشمس. لو كان كوكبنا هذا أقرب إلي الشمس لكانت درجات الحرارة عليه من الإرتفاع بما لايسمح بتكوين الماء السائل الضروري للحياة كما نعرفها. ولو كان أبعد لتجمدت المياه وإستحالت ظهور الحياة أيضا. قد يتصور القاريء أن للصدفة هنا دور ، حيث يمكن أن يقال مثلا أنه من قبيل الصدف وجود كوكب بحجم كوكبنا في هذا المدار بالذات حول الشمس بالظروف المواتية لنشأة الحياة. ولكن هذا صحيح جزئيا فقط ، حيث أنه بالفعل من قبيل الصدفة وجود هذا الكوكب بالذات يدور حول هذا النجم بالذات ، ولكن في الواقع أن كم النجوم الموجودة في الكون من القدر الذي يتحتم معه أن ينشأ ، بالصدفة ، ليس كوكبا واحدا فقط بظروف مواتية للحياة ، ولكن ملايين الملايين منها. وقد حسب بعض العلماء ، بإستخدام نظرية الإحتمالات ، إحتمالية ظهور كواكب بظروف مواتية للحياة في أي مكان في الكون فوجدوها مئة بالمئة (مثلا في هذا الكتاب). النقطة الثانية المؤكدة هنا هي أن الحياة نشأت إما في أعماق المحيطات أو في البيئة الطينية لكوكب الأرض في العصور السحيقة ، حتي وإن كنا لا نعرف بالضبط كيف حدث هذا. وهذه هي النقطة التي ، صدق أو لا تصدق عزيزي القاريء ، أكدها لنا القرأن كما سنري في ما بعد.
تطور الأحياء
يخبرنا علماء الجينات أن التكوين الجيني لكل الخلايا الحية يمر بطفرات ، أو تغييرات ، عديدة ( mutations) بصورة مستمرة وغير عشوائية علي المدي البعيد (حتي وإن كانت الطفرة الواحدة عشوائية بالفعل) ولكن بالأحري تخضع لقوانين كيميائية دقيقة تسيرها في مسارات معينة ، أغلبها لا ضرر منه ولا نفع أيضا. ولكن بعضها قد يخلق الظروف الأفضل لإستمرارية صاحبه عن باقي أفراد فصيلته.
لنأخذ مثال
إفترض وجود نوع من الأسماك يتميز بإنطفاء لونه الخارجي بحيث يصعب معه رؤيته وهو يسبح من مسافات بعيدة. هذه الخاصية مفيدة لبقاء هذا النوع من الأسماك لأن عدوه الطبيعي ، نوعا أخر من الأسماك ، لن يراه عن بعد وبالتالي لن يطارده ليأكله. ولكن من ناحية أخري يقل التزاوج بين ذكور وإناث هذا النوع لأن أنثاه عادة ما تنجذب للون الذكر الخارجي البراق. نظرا لهذا الإتزان بين فائدة اللون وعيوبه يظل تعداد هذا النوع من الأسماك ثابتا لإتزان معدلات إقتناصه مع معدلات التكاثر.
فلنفترض ألأن أن بعضا من هذا السمك ضل طريقه يوما ما ، مثلا ، أو إنفصل عن بيئته الأصلية بفعل تغير جيولوجي كبركان أو شيء من هذا القبيل ، ووجد نفسه في مكان أخر من المحيط يقل فيه عدوه الطبيعي. ولنفترض أيضا أن طفرة جينية في أحد الذكور أدت إلي زيادة بريق ولمعان لون جلده الخارجي. لأن عدوه الطبيعي غير موجود فهذا الذكر تحديدا لن يقتنص (بضم الياء) وسيكون الإقبال عليه من الإناث مرتفعا. وبالتالي ينشأ جيلا جديدا من هذا النوع يتميز بزيادة لمعان قشرته الخارجية ، ويستمر هذا علي مدي أجيال عدة يتزايد فيها أعداد السمك ذو البريق عن غيرها لأن الإناث ستختار ذو البريق علي غيره ، حتي يفني تماما النوع الأصلي قليل اللمعان. من هنا نستطيع أن نقول أن أحفاد المجموعة الأصلية التائهة سيكون شكلهم مختلفا تماما عن أجدادهم أصحاب اللون المنطفيء الذين لم يضلوا الطريق وظلوا في بيئتهم الأصلية ، وبطفرات أخري وعوامل بيئية أخري يبدأ شيئا فشيئا تطور النوع الأصلي إلي نوع وفصيلة مختلفة تماما عن أسلافهم. وقد ينشأ من نفس السلف أنواع أخري كثيرة من الأسماك مختلفة تماما عن بعضهم البعض.
لقد إخترت هذا المثال بالذات لأن هذه التجربة قد تمت بالفعل. قام بها أحد علماء الأحياء علي نوع معين بالسمك ، وقام مع فريقه العلمي بنقل بعضا من هذا النوع من بيئة إلي أخري يقل فيها عدوه الطبيعي ، وتابع تطوره. المدهش أن تغير لون قشرة أحفاد المجموعة المنقولة حدث في سنوات قليلة بحيث كان من السهل تحديد أسبابها ومتابعة تطورها! إذا شيئا مثل تغير تام في لون القشرة الخارجية لفصيلة كاملة من الأسماك قد يحدث في سنوات قليلة هي عمر البحث ، فمابالك ، عزيزي القاريء ، بمئات الملايين من السنين من عمر الأرض؟ (المصدر)
هناك عوامل أخري عديدة ينتج عنها تطور الكائنات غير مجرد إنتقاء الإناث للذكور (sexual natural selection) ولكني أعتقد أن هذا المثال البسيط يوضح الفكرة. لاحظ عزيزي القاريء أن سلسلة التطور هنا ليست كما يتصور البعض. لم يحدث أبدا في تاريخ كوكبنا أن أنجب كائنا ما وليدا ينتمي إلي فصيلة أخري ، لم يحدث مثلا أن أنجبت أنثي سمك حيوانا زاحفا بأرجل ، ولن يحدث ، ولكن ما نتحدث عنه هنا هو تطور بطيء خاضع لعوامل بيئية وقوانين وراثية محددة علي مدي ملايين السنين. يختلف كل جيل عن سابقه إختلافا بسيطا وقد يكون ميكروسكوپيا ، ولا تلاحظ الإختلافات إلا بعد تراكمها بمرور أجيال وأجيال.
وهكذا تتغير الفصائل والأنواع عبر السنون وينتج من كل فصيلة فصائل عدة. ولذلك فإن كل كائن حي علي وجه الأرض اليوم يشترك مع أي كائن أخر في سلف من الماضي السحيق. وكلما إختلفت الكائنات كلما بعدت الفتره الزمنية بين الأحياء وأسلافهم المشتركة. الصورة التالية توضح رسم مبسط جدا جدا لشجرة التطور تبيانا لموضوع السلف المشترك ، وقد قمت بترجمة بعض الأسماء المعروفة
كل نقطة تفرع في هذه الشجرة هي سلفا مشتركا للعديد من الكائنات ، منها الإنسان
نعم عزيزي القاريء ، أعرف أن عيناك إنطلقت باحثة في هذه الشجرة عن موقعنا نحن البشر منها ، وأعرف أنك لاحظت قرب موقعنا من القرود. في الواقع أن هذه النقطة تحديدا هي ما يخيل لي أنها تثير حفيظة معظم المعترضين علي التطور. لولم يكن للإنسان مكانا في هذه الشجرة لما إعترض ، في تصوري ، عليها أحدا. الإعتراض هنا ليس بسبب علمي ، بل إني أكاد أجزم أنه أيضا ليس بسبب ديني ، لأنه ، كما سأوضح ، لا يوجد تعارض بين الدين وبين التطور إطلاقا. أعتقد أن سبب حفيظة معظم الناس هو ، بمنتهي البساطة ، الغرور الإنساني. وهذا من صفات الإنسان المتفردة التي لا يقابله فيها كائنا أخر. لاشك أنها طبيعة بشرية أن يظن الإنسان أنه أفضل من الكائنات الأخري. بل يحدث هذا علي المستوي الفردي أيضا فكم مننا يظن في قرارة نفسه أنه أفضل من المحيطين به. وكم من مأسي إنسانية وجرائم بشرية حدثت في التاريخ بسبب هذه الطبيعة. فإن كان الفرد قد يرفض أن يكون هناك بشرا أخرون أفضل منه فماذا وإن واجهناه أنه لا يتميز عن باقي الكائنات من الحيوانات والحشرات وحتي النباتات وأنه ليس إلا فرعا وحيدا متفردا في شجره الحياة؟ ضربة رهيبة لل"أنا" الإنسانية ، إصابة في مقتل للغرور الإنساني لا تقل في حدتها من إدراكنا أن كوكبنا ليس مركز الكون بل هو نقطة في بحر الكون لا تتميز عن غيرها بأي شيء.
ولكن لنستمر
أحب أن أوضح هنا أن كل هذا ليس إستنتاجا من فراغ ، وليس مجرد فرضية غير مثبتة. التطور حقيقة تدعمها ملايين الحفريات ، والتجارب المعملية (مثل تجربة السمك) بل والأبحاث الجينية أيضا. التطور واقع مثبت ، وألياته معروفة ويتم دراستها كل يوم في كل معامل العالم ويتم تدريسها أيضا في جميع جامعات العالم المعترف بها. فلا يستطيع اليوم عالم محترم أن ينفي أو يرفض التطور وإلا كان يرتكب إنتحارا أكاديميا ، إلا في حالة واحدة ، أن يتقدم بالدليل العلمي القاطع المضاد للتطور وهو مالم يحدث إلي الأن. نظرية التطور تضاهي في درجة إثباتها نظريات نيوتن وأينشتين التي ثبتت بالأدلة المعملية والرصدية مئات الألوف من المرات.
القرأن والتطور
إذا تركنا غرورنا البشري جانبا وتساءلنا من منطلق محايد بحت: هل يتعارض القرأن مع نظرية التطور كما أوضحتها أعلاه؟
يقر القرأن نظرية الأبيوجينيسيس التي تقول بنشأة الحياة في أعماق المحيطات بقوله
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
في سورة الأنبياء . تلك الأية الكريمة التي فسرها المفسرون بتفاسير عدة منها أن الماء له فوائد للجسم ، وأننا نحتاج إليه لنعيش ، أو أن كل الأحياء يتكون من نسبة عالية من الماء وهكذا. ولكن القاريء المنصف يستطيع أن يري بجلاء أن كل هذه التفاسير هي تقويل علي النص مالم يقله. لاتتحدث الأية عن أي شيء من هذا بل تتحدث تحديدا عن نشأة الحياة ، ويتضح ذلك بشدة إذا أخذنا الأيات كاملة بما قبلها وما بعدها. يقول جل شأنه
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ . وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ . وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ . وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
إذا الحديث هنا ، جليا ، عن الخلق الأول وليس عن فوائد الماء أو أي شيء من هذا القبيل.
هذه الأية الكريمة ، أكثر من أيات القران الأخري ، تطابق فكرة الأبيوجينيسيس تطابقا مثيرا للدهشة! وهناك ايضا في سورة النور
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ولكن هذه الأية أقل وضوحا من سابقتها حيث أنها تحتمل التأويل لقوله "ماء" بدلا من "الماء" كما في أية سورة الأنبياء ، حيث يختلف المعني هنا من المعرف (بضم الميم وفتح العين وفتح وتشديد الراء) ، والمقصود به المحيطات كما أسلفنا ، والغير معرف والمقصود به مادة الماء ذاتها ، وبالتالي تحتمل هذه الأيه الأخيرة أن يكون المقصد منها هو أن الأجسام الحية مكونة ، بنسبة عالية جدا ، من المركب الكيميائي المعروف بالماء.
ماذا عن تطور الكائنات؟ ماذا يقول القرأن؟ لايبدو لي أن القرأن ذكر هذا الموضوع إلا في مايختص بخلق الإنسان فقط بقوله في سورة المؤمنون
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ
يفسر المفسرون هذه الأية بمعني أن كل منا كبشر هو نهاية سلالة طويلة بدأت بخلق الإنسان الأول ، سيدنا أدم عليه السلام ، من طين. ولكن لغة القرأن القوية الواضحة تعاند هذا التفسير بوضوح. الأية تقول أن بين الإنسان وبين الطين يوجد سلالة! والسلالة لاهي طين ولا هي إنسان ، أليس هذا واضحا وضوح الشمس؟ كيف لايستطيع كل من يقرأ هذا الكلام أن يتساءل كيف يكون تفسير المفسرين صحيحا؟ كيف يكون المقصود من السلالة أنها سلالة البشر حتي سيدنا أدم إذا كانت الأية توضح أن السلالة لم تكون أناسا مثلنا؟ وماهو الطين؟ أليس مركبات جمادية مخلوطة بالماء؟ إذا الله خلق من هذا حياة ومن الحياة نشأت سلالة ومن السلالة نشأ الإنسان. أليس هذا وصفا رائعا ودقيقا لما تقوله نظرية التطور؟
تدبر معي أيضا ، عزيزي القاريء ، هذه الأيات الكريمة من سورة نوح التي تصف الخلق:
مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ، وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا
تدبر معي أيضا ، عزيزي القاريء ، هذه الأيات الكريمة من سورة نوح التي تصف الخلق:
مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ، وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا
لن أعلق كثيرا ، ولكن ألا يستدعي الإنتباه إستخدام كلمة "أطوارا"؟ مع العلم أن الحديث هنا هو عن الخلق الأولي وليس عن أطوار الجنين كما فسرها المفسرون. أضف إلي ذلك تشبيه خلق الإنسان بإنبات النبات الذي يستتبع المرور في مراحل (تطورية) عدة وليس خلقا فوريا كما الفكر التقليدي.
ماذا عن باقي أيات خلق الإنسان؟ فلنستعرضها معا
البقرة
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ .
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
لاتذكر هذه الأية كيفية خلق أدم وبالتالي فهي لاتعارض التطور.
ص
إذ قال ربك للملائكة إِني خالق بشراً من طين
الصافات
فاستفتهِم أَهم أَشد خلقاً أَم من خلقنا إِنا خلقناهم من طين لاَّزِب
لاخلاف هنا ، التطور يقول أن أصل البشر من "طين" المحيطات.
الحجر
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأ مَّسْنُونٍ
الرحمن
خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
أيضا لا خلاف ، فلا ضرار أن كلمة "صلصال" تقابل كلمة "طين" في المعني.
الحج
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ
وهنا لا خلاف أيضا ، فالطين هو تراب ، أي مادة جمادية من الأرض ، مخلوطا بالماء.
ويستشهد بعض الناس بالأية الأتية
ص
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
مفسرين معني "بيدي" تفسيرا حرفيا . لايستحق هذا النوع من الفكر الوقوف عنده طويلا فلاشك أن المعني هنا مجازي ، فالله لا "يد" له بالمعني الحرفي فهو ليس كمثله شيء. نلاحظ أيضا أن هذه الأخيرة تنفي أن يكون الله خلق الإنسان علي صورته كما يدعون. فالله لا صورة له بالمعني المفهوم (ليس كمثله شيء) وبالتالي كل الأحاديث النبوية التي تقول بهذا تخالف القرأن فهي بلا شك موضوعة. أنظر هذا المقال للمزيد حول هذا الموضوع.
ومن العجب العجاب عندي أن كثيرا من علماء السلف والخلف يأخذون بقصص التوراة ويدمجونها في الموروث الديني الإسلامي وذلك علي الرغم من عدم إعترافهم بالتوراة علي صورتها الحالية. مثال ذلك قصة خلق "زوج أدم" التي سمتها التوراة ، وليس القرأن ، حواء! وقصة صناعتها من ضلع أدم. لا يذكر القرأن هذا مطلقا بل يقول
النساء
(يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ أنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
بدون الإستشهاد بالتوراة يصبح المعني واضح. الله سبحانه خلقنا من نفس واحدة (الخلية الأولي؟) ثم خلق "من" هذه النفس زوجها (إنشطار الخلية الأولي؟) وحتي وإن كان المقصود بكلمة "نفس" هو الإنسان الأول فإن كلمة "زوجها" كلمة قد تعني الزوج وقد تعني الزوجة وقد تعني "الأخر" إذا أخذنا بالمعني العام لكلمة "زوج" أي إثنان ، ونلاحظ أن فهم كلمة "النفس" بمعني الخلية الأولي يؤكده قوله أنه "بث" منهما رجالا كثيرا ونساء. ما هي الحكمة القرأنية في إستخدام كلمة "نفس" بدلا من كلمات "بشر" "إنسان" "رجل" "إمرأة" وهكذا؟ هل يعني هذا أن هذه النفس لم تكن بشرا مثلنا؟؟ في جميع الأحوال ، وبدون الدخول في تساؤلات فرعية فإن هذه الأية ، أيضا ، لاتعارض الأبيوجينيسيس أو التطور في شيء.
ولا هذه أيضا:
الحجرات
يَأيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرِ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
يقول جل ذكره في سورة
آل عمران
إن مثل عيسى عند الله كمثلِ آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
يستدل بعض الناس بهذه الأية ليقول أن أدم لم يكن له أبا ولا أما كما لم يكن لعيىسي أبا . ولكن ليس هذا هو المعني الوحيد ، من المعاني المحتملة الأخري ان خلق أدم من تراب ، وهو ما يطابق التطور إذا أخذناه مع أية السلالة ، لهو من أعمال الله المتفردة الفريدة التي لم ولن تتكرر. مثلها مثل ولادة طفل بلا أب. لاضرار إذا ان يكون أدم هو أبو البشر ولكنه ولد من أب وأم ، ربما يكون أدم هو أول من أنعم الله عليه بنعمة العقل (من خلال التطور أيضا) ، وربما يكون أدم لم يوجد كشخص ولكنه رمزا مجازيا للإنسان القادر بعقله علي التدبر والتعلم (علم أدم الأسماء كلها). قد تحتمل قصه خلق أدم العديد من المعاني ، ولكنني لن أتطرق لها هنا ، يكفينا أنها لاتناقض التطور وهو محور هذا المقال.
التين
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
يتخذ بعض الناس من هذه الأية ذريعة للإعتراض علي أن أصول الإنسان تعود إلي حيوانات أدني ، فيقولون ما معناه كيف يكون الله خلقنا في أحسن تقويم وأنتم تقولون أن أصلنا من القردة (وهو مالاتقوله النظرية أساسا)؟ ولكنهم بهذا يهملون تفسيرات المفسرين التي ، لأول مرة ، أتفق معها حين تقول أن التقويم هو اعتدال الإنسان واستواء شبابه كما قال عامة المفسرين . وهو أحسن ما يكون ، لأن الله خلق كل شيء منكبا على وجهه ، وخلق الإنسان مستويا ، وله لسان ذلق ، ويد وأصابع يقبض بها . وقال أبو بكر بن طاهر : مزينا بالعقل ، مؤديا للأمر ، مهديا بالتمييز ، مديد القامة يتناول مأكوله بيده . ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حيا عالما ، قادرا مريدا متكلما ، سميعا بصيرا ، مدبرا حكيما. إنتهي النقل.
يتخذ بعض الناس من هذه الأية ذريعة للإعتراض علي أن أصول الإنسان تعود إلي حيوانات أدني ، فيقولون ما معناه كيف يكون الله خلقنا في أحسن تقويم وأنتم تقولون أن أصلنا من القردة (وهو مالاتقوله النظرية أساسا)؟ ولكنهم بهذا يهملون تفسيرات المفسرين التي ، لأول مرة ، أتفق معها حين تقول أن التقويم هو اعتدال الإنسان واستواء شبابه كما قال عامة المفسرين . وهو أحسن ما يكون ، لأن الله خلق كل شيء منكبا على وجهه ، وخلق الإنسان مستويا ، وله لسان ذلق ، ويد وأصابع يقبض بها . وقال أبو بكر بن طاهر : مزينا بالعقل ، مؤديا للأمر ، مهديا بالتمييز ، مديد القامة يتناول مأكوله بيده . ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حيا عالما ، قادرا مريدا متكلما ، سميعا بصيرا ، مدبرا حكيما. إنتهي النقل.
ولاخلاف هنا مطلقا مع نظرية داروين ، بل هو تاكيد لها ، أفلا يختلف الإنسان بالفعل عن أسلافه بإستواء ظهره وإعتداله ، ومقدرته علي إستخدام يديه؟ ألا يختلف عن باقي الكائنات بنعمة العقل والتمييز والتدبر؟ أين المشكلة إذا؟ نعم الإنسان جزء من شجره الحياة التطورية ، ولكن لا جدال حتي عند التطوريين أن الإنسان يتميز عن باقي الكائنات بصفات عدة تجعله ، بدون شك ، سيد هذا الكوكب.
من هنا يتضح للقاريء المنصف أن كلام الله عز وجل لايتضارب مع واقعي الأبيوجينيسيس والتطور ، بل علي العكس يؤكدهما في أيتين علي الأقل. في نهاية هذا المقال نشير إلي نقطتان يثيران التأمل: ماهو الفرق القرأني بين كلمتي "جعلنا" و"خلقنا"؟ هل يحملان نفس المعني؟ النقطة الثانية : ماهو الفرق ، إن كان هناك فرقا ، بين كلمتي "البشر" و "الإنسان"؟ في إعتقادنا أن هاتان النقطتان يحملان بين طياتهما الكثير من المعني الذي قد يدلنا علي المزيد من الفهم لمفهوم الخلق في القرأن وسنفرد لهما بحثا لاحقا إن شاء الله