السبت، 19 فبراير 2011

خواطر ثورية

خواطر ثورية

بقلم سانب

لم أكن أتصور ابداً أن يأتي يوم اكتب فيه في السياسة!‏ ولكن الواقع اليوم أننا كلنا أصبحنا سياسيين ‫، فليس من شك أن احداث الأسابيع السابقة هي أهم وأخطر ماحدث في مصر منذ حرب أكتوبر 1973 ‫، بل من المتوقع أن تأثير ثورة 25 يناير 2011 علي مستقبل مصر لن يقل في عمقه وقوته عن تأثير ثورة 1919 أو حركة الإنقلاب العسكري في يوليو 1952 ‫(‫المسماة خطأ بالثورة‫)‫‫.‫ ولذلك فلا عجب أننا كلنا اليوم سياسيون ‫، وكلنا مؤرخون ‫، وكلنا صانعوا مستقبل مصر‫.‫

ماذا أريد أن أقول‫؟

أريد أولاً أن أوضح أن ثورة 25 يناير 2011 قد فاجأتني كما فاجأت مصر كلها والعالم بأسره ‫، بل أني أظن أنها فاجأت منظميها أنفسهم الذي ربما لم يتوقعوا تجاوب الشعب معهم إلي درجة خروج ملايين المتظاهرين في كل بلدان مصر رافعين نفس ذات الشعارات ‫، مصممين علي الحفاظ علي شرف هذه الثورة البيضاء ونقائها‫.‫ ولن أزيد وأكرر وأعيد عليكم ‫، قرائي الأعزاء ‫، فكلنا نعرف ماذا حدث وكيف كانت هذه الثورة ‫، ومازالت ‫، ثورة نقية طاهرة ‫، بيضاء اليد ‫، لاتعرف إلا السلم ‫، ولا تعترف إلا بالحق والعدل‫.‫

أخجل حين أقول أني تفاجأت ‫، حقيقةً أخجل ‫، لأن من يعرفونني يعلمون كم من مرة كررت علي مسامع الأشهاد ثقتي في مصر والشعب المصري ‫، وثقتي في تاريخ سبعة ألاف من الأعوام ليس كأي تاريخ عرفه العالم‫.‫ ورغم ذلك فقد كنت أظن أننا سقطنا في عمق هوة فكرية وحضارية لا خروج منها قبل عقود طويلة‫.‫

أخجل حين أعترف أنني سخرت من الدعوة للخروج يوم الخامس والعشرين من يناير ‫، مشيراً وقتها إلي أنه لم يحدث في تاريخ الثورات الشعبية أن أعلن الشعب يوماً محدداً لخروجه ‫، وكنت أظنه يوماً مثل كل الأيام ‫، ولم يخطر ببالي أبداً أنه سيكون يوماً يغير تاريخ العالم!‏

ولكن ‫.‫‫.‫‫.‫

بالفعل خرجت الجموع ‫، وخرج الشباب ‫، في ثورة سلمية حضارية غير مسبوقة‫.‫ أثبت فيها وبها المصريون للعالم كله عمق حضارتهم ومدي تحضرهم ‫، أثبتت مصر لنفسها ‫، قبل أن تثبت للأخرين ‫، أنها بالفعل ‫"‫أم الدنيا‫.‫"‫‫

ويتبقي أن نسأل‫: هل إنتهت ثورة 25 يناير‫‫‫؟ وماهي أهم إنجازات هذه الثورة حتي يومنا هذا‫؟ وطبعاً السؤال الأكبر‫: ماهو مستقبل مصر وكيف سيتكون‫؟

من الصعوبة بمكان الإجابة علي هذه الأسئلة بصورة قطعية الأن‫.‫ ولاشك أن التاريخ سيكون له الرأي النهائي والفيصل في ذلك‫.‫ ولكن لنحاول علي الأقل أن نصيغ ما يمكن تسميته بخواطر حول هذه الأسئلة ‫، وليس إجابات‫. وسأحاول أن أفعل ذلك بإختصار في ما سيلي بإستخدام أسلوبي المعتاد في القراءة المباشرة للأحداث والوقائع‫.‫

حقائق‫:

‫* تعاني مصر منذ عقود من ما لايمكن إلا أن يسمي بإنهيار تام في نظام الدولة‫.‫ إقتصاد متدني ‫، أسلوب قمعي في التعامل مع الشعب ‫، فساد منتشر في كل مكان ‫، جهاراً نهاراً بلا أدني إستحياء ‫، ناهيك عن تقلص هيبة الدولة وتراجع دور القانون‫.‫ ونستطيع الأن ‫، بعد وقوع الأحداث ‫، أن نقول أن الثورة قامت كنتيجة حتمية ‫، وإن كانت ذات توقيت وأسلوب مفاجيء ‫، لكل هذا ‫، بما فيه الأحداث الأخيرة من مقتل المواطن خالد سعيد وتفجير كنيسة القديسَين بالأسكندرية‫.‫
*‫ أثبت الشعب المصري لنفسه مقدرته علي التغيير ‫، وقدرته علي حب مصر والعطاء لها‫.‫ ورفع رأسه عالية بين الأمم التي أشادت ‫، ولازالت ‫، بثورته البيضاء‫.‫
*‫ رحل السيد محمد حسني مبارك رأس النظام المصري متخلياً عن الحكم‫ ‫، مع ملاحظة أن النظام نفسه لم يتغير بعد ‫، بل قد يكون في أحسن التكهنات ‫، في طور التغيير‫.‫
*‫ تولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة شئون رئاسة الجمهورية‫.‫ ومما لا شك فيه ان المجلس ‫، بصرف النظر عن ما يمكن أن يكون من أحداث خلف الكواليس ‫، في موقف لا يحسد عليه‫.‫ فقد تسلم دولة في حالة شبه إنهيار ‫، ويتوقع منه الشعب أكثر مما يمكن ‫، عملياً ‫، أن يحققه في فترة بسيطة‫.‫
*‫ تحاول بعض الجهات ذات الطموحات السياسية أوالثيوقراطية ‫، او كلاهما معاً ‫، القفز علي الثورة وإنجازاتها‫.‫
*‫ كالمعتاد تنتشر الشائعات في مصر إنتشار النار في الهشيم ‫، بما في ذلك الأخبار الواردة من مصادر صحفية عدة ‫، داخلية وخارجية‫.‫ وفي رأينا أن هذه الأخبار ‫لا طائل منها ولا فائدة إلا نشر القلق بين أفراد الشعب ‫، وإحلال الخوف والفزع قلوب الطوائف الدينية والسياسية المختلفة‫.‫ ولذا فإني أغض الطرف عن هذه الأخبار ‫، وأغلق السمع عن كل ما لا أعتبره واقعة حقيقية أو قراراً سياسياً له حجة وتأثير‫.‫ بما في ذلك التكهنات النابعة من قراءات للأحداث لمفكرين أكن لهم الأحترام ولكن أعيب عليهم التسرع في الإستنتاجات ‫، ناسين أن هناك من الشباب من يأخذ كلامهم محل ثقة لا راد لها‫.‫

هذه هي الحقائق‫.‫ القراءة المباشرة لها تحتم علينا أن نعترف بالأتي‫:

أولاً‫: أهم إنجازات ثورة 25 يناير هي إسترداد الشعب المصري لثقته بنفسه ‫، والإرتفاع المفاجيء للوعي السياسي عند الشباب المصري ‫، أو بالأصح الظهور المفاجيء له.‫ ومامن شك أن هذا في حد ذاته إنجازاً ضخماً سيكون له تبعات لا حصر لها ‫، فلا يبدو لي أن المواطن المصري الأن سيُخدَع من جديد ‫، أياً كان مصدر الخدعة ‫، أو سَيَخْنَع ثانية ‫، مهما كانت الظروف أو الملابسات‫‫.‫

ثانياً‫: قرارات وتصرفات المجلس الأعلي للقوات المسلحة إلي الأن صائبة ‫، بصرف النظر عن بعض التساؤلات والتكهنات حول لجنة تعديل الدستور وبعض القرارات الأخري الخاصة بالإكتفاء المؤقت بالحكومة الحالية وما إلي ذلك‫.‫

ثالثاً‫: الثورة لم تنتهي بعد ‫، فمطالب الشعب المصري كانت ومازالت واضحة‫: تغيير النظام ‫، ليس فقط الأشخاص ‫، ولكن النظام كله‫.‫ وأنا الأن أنتظر ‫، بالقليل من الصبر ‫، إعلان التعديلات الدستورية ‫، فالدستور هو أصل النظام وقاعدته الأساسية‫.‫ ولن تستقيم الأمور السياسية في مصر وفيها دستوراً يسمح أن يحكم مصر شخصاً واحداً مدداً لا حد أقصي لها‫.‫ فإذا تغير الدستور وأصبح هناك حداً أعلي يُحترم لفترة حكم رئيس الجمهورية ‫، فإني أتوقع أن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بمعالجة الشيء الكثير من الفساد في مصر ‫، فقد يتواني بعض المفسدين عن فسادهم لعلمهم أن من يستندون إليه ‫، رأس النظام ‫، إلي زوال بعد عدد محدد من السنوات ‫، وسيجد الناس صعوبة في الإعتماد علي حِكمة الرئيس وتوجيهات الزعيم ‫، لأن الشخص إلي رحيل ‫، ولكن النظام وسيادة القانون إلي بقاء‫.‫

مشاكل مصر كثيرة ‫، فالهدم سهل وسريع والبناء صعب وبطيء ‫، ولكن التاريخ يعلمنا أنه لا يصح إلا الصحيح ‫، وما يبني علي حق لا يأتيه الباطل ‫، فهذه الثورة هي البداية الحقيقية للديمقراطية في مصر ‫، هي بداية الحياة الكريمة لكل مصري‫.‫ الأن‫؟ طبعاً لا ‫، المشاكل كثيرة وعميقة ومن المستحيل حلها في يومٍ وليلة‫.‫ مازال الطريق طويلاً ووعراً ‫، ولكن هذا الشعب ‫، الذي كسب ثقته بنفسه وثقتنا والعالم كله فيه في أقل من ثلاثة أسابيع ‫، لن يتوقف عن السعي الدؤوب لتحقيق إرادته ‫، للحاق بركب الأمم المتقدمة ‫، أياً كانت المعوقات‫ ‫، ومهما كانت التحديات.‫

لن نثق إلا بأنفسنا ‫، لن نثق إلا بشبابنا ‫، ذهب إلي الأبد الخوف والخنوع ‫، ذهب التواكل ‫، ولم يتبق لنا إلا عُـصارة الحضارة التي لاتنضب ‫، والتاريخ الذي لا يكذب‫‫.‫ العمل أمامنا كثير ‫، سنخطيء ‫ونصحح ‫، سنتعثر وننهض ‫، ولكن الطريق واضح أمامنا ‫، وماهو إلا في إرتفاع إلي الأبد‫.‫

عاشت مصر رافعة الرأس ‫، عاشت بلد قد تنحني ‫، ولكنها لا تنهار