خواطر ثورية
بقلم سانب
لم أكن أتصور ابداً أن يأتي يوم اكتب فيه في السياسة! ولكن الواقع اليوم أننا كلنا أصبحنا سياسيين ، فليس من شك أن احداث الأسابيع السابقة هي أهم وأخطر ماحدث في مصر منذ حرب أكتوبر 1973 ، بل من المتوقع أن تأثير ثورة 25 يناير 2011 علي مستقبل مصر لن يقل في عمقه وقوته عن تأثير ثورة 1919 أو حركة الإنقلاب العسكري في يوليو 1952 (المسماة خطأ بالثورة). ولذلك فلا عجب أننا كلنا اليوم سياسيون ، وكلنا مؤرخون ، وكلنا صانعوا مستقبل مصر.
ماذا أريد أن أقول؟
أريد أولاً أن أوضح أن ثورة 25 يناير 2011 قد فاجأتني كما فاجأت مصر كلها والعالم بأسره ، بل أني أظن أنها فاجأت منظميها أنفسهم الذي ربما لم يتوقعوا تجاوب الشعب معهم إلي درجة خروج ملايين المتظاهرين في كل بلدان مصر رافعين نفس ذات الشعارات ، مصممين علي الحفاظ علي شرف هذه الثورة البيضاء ونقائها. ولن أزيد وأكرر وأعيد عليكم ، قرائي الأعزاء ، فكلنا نعرف ماذا حدث وكيف كانت هذه الثورة ، ومازالت ، ثورة نقية طاهرة ، بيضاء اليد ، لاتعرف إلا السلم ، ولا تعترف إلا بالحق والعدل.
أخجل حين أقول أني تفاجأت ، حقيقةً أخجل ، لأن من يعرفونني يعلمون كم من مرة كررت علي مسامع الأشهاد ثقتي في مصر والشعب المصري ، وثقتي في تاريخ سبعة ألاف من الأعوام ليس كأي تاريخ عرفه العالم. ورغم ذلك فقد كنت أظن أننا سقطنا في عمق هوة فكرية وحضارية لا خروج منها قبل عقود طويلة.
أخجل حين أعترف أنني سخرت من الدعوة للخروج يوم الخامس والعشرين من يناير ، مشيراً وقتها إلي أنه لم يحدث في تاريخ الثورات الشعبية أن أعلن الشعب يوماً محدداً لخروجه ، وكنت أظنه يوماً مثل كل الأيام ، ولم يخطر ببالي أبداً أنه سيكون يوماً يغير تاريخ العالم!
ولكن ...
بالفعل خرجت الجموع ، وخرج الشباب ، في ثورة سلمية حضارية غير مسبوقة. أثبت فيها وبها المصريون للعالم كله عمق حضارتهم ومدي تحضرهم ، أثبتت مصر لنفسها ، قبل أن تثبت للأخرين ، أنها بالفعل "أم الدنيا."
ويتبقي أن نسأل: هل إنتهت ثورة 25 يناير؟ وماهي أهم إنجازات هذه الثورة حتي يومنا هذا؟ وطبعاً السؤال الأكبر: ماهو مستقبل مصر وكيف سيتكون؟
من الصعوبة بمكان الإجابة علي هذه الأسئلة بصورة قطعية الأن. ولاشك أن التاريخ سيكون له الرأي النهائي والفيصل في ذلك. ولكن لنحاول علي الأقل أن نصيغ ما يمكن تسميته بخواطر حول هذه الأسئلة ، وليس إجابات. وسأحاول أن أفعل ذلك بإختصار في ما سيلي بإستخدام أسلوبي المعتاد في القراءة المباشرة للأحداث والوقائع.
حقائق:
* تعاني مصر منذ عقود من ما لايمكن إلا أن يسمي بإنهيار تام في نظام الدولة. إقتصاد متدني ، أسلوب قمعي في التعامل مع الشعب ، فساد منتشر في كل مكان ، جهاراً نهاراً بلا أدني إستحياء ، ناهيك عن تقلص هيبة الدولة وتراجع دور القانون. ونستطيع الأن ، بعد وقوع الأحداث ، أن نقول أن الثورة قامت كنتيجة حتمية ، وإن كانت ذات توقيت وأسلوب مفاجيء ، لكل هذا ، بما فيه الأحداث الأخيرة من مقتل المواطن خالد سعيد وتفجير كنيسة القديسَين بالأسكندرية.
* أثبت الشعب المصري لنفسه مقدرته علي التغيير ، وقدرته علي حب مصر والعطاء لها. ورفع رأسه عالية بين الأمم التي أشادت ، ولازالت ، بثورته البيضاء.
* رحل السيد محمد حسني مبارك رأس النظام المصري متخلياً عن الحكم ، مع ملاحظة أن النظام نفسه لم يتغير بعد ، بل قد يكون في أحسن التكهنات ، في طور التغيير.
* تولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة شئون رئاسة الجمهورية. ومما لا شك فيه ان المجلس ، بصرف النظر عن ما يمكن أن يكون من أحداث خلف الكواليس ، في موقف لا يحسد عليه. فقد تسلم دولة في حالة شبه إنهيار ، ويتوقع منه الشعب أكثر مما يمكن ، عملياً ، أن يحققه في فترة بسيطة.
* تحاول بعض الجهات ذات الطموحات السياسية أوالثيوقراطية ، او كلاهما معاً ، القفز علي الثورة وإنجازاتها.
* كالمعتاد تنتشر الشائعات في مصر إنتشار النار في الهشيم ، بما في ذلك الأخبار الواردة من مصادر صحفية عدة ، داخلية وخارجية. وفي رأينا أن هذه الأخبار لا طائل منها ولا فائدة إلا نشر القلق بين أفراد الشعب ، وإحلال الخوف والفزع قلوب الطوائف الدينية والسياسية المختلفة. ولذا فإني أغض الطرف عن هذه الأخبار ، وأغلق السمع عن كل ما لا أعتبره واقعة حقيقية أو قراراً سياسياً له حجة وتأثير. بما في ذلك التكهنات النابعة من قراءات للأحداث لمفكرين أكن لهم الأحترام ولكن أعيب عليهم التسرع في الإستنتاجات ، ناسين أن هناك من الشباب من يأخذ كلامهم محل ثقة لا راد لها.
هذه هي الحقائق. القراءة المباشرة لها تحتم علينا أن نعترف بالأتي:
أولاً: أهم إنجازات ثورة 25 يناير هي إسترداد الشعب المصري لثقته بنفسه ، والإرتفاع المفاجيء للوعي السياسي عند الشباب المصري ، أو بالأصح الظهور المفاجيء له. ومامن شك أن هذا في حد ذاته إنجازاً ضخماً سيكون له تبعات لا حصر لها ، فلا يبدو لي أن المواطن المصري الأن سيُخدَع من جديد ، أياً كان مصدر الخدعة ، أو سَيَخْنَع ثانية ، مهما كانت الظروف أو الملابسات.
ثانياً: قرارات وتصرفات المجلس الأعلي للقوات المسلحة إلي الأن صائبة ، بصرف النظر عن بعض التساؤلات والتكهنات حول لجنة تعديل الدستور وبعض القرارات الأخري الخاصة بالإكتفاء المؤقت بالحكومة الحالية وما إلي ذلك.
ثالثاً: الثورة لم تنتهي بعد ، فمطالب الشعب المصري كانت ومازالت واضحة: تغيير النظام ، ليس فقط الأشخاص ، ولكن النظام كله. وأنا الأن أنتظر ، بالقليل من الصبر ، إعلان التعديلات الدستورية ، فالدستور هو أصل النظام وقاعدته الأساسية. ولن تستقيم الأمور السياسية في مصر وفيها دستوراً يسمح أن يحكم مصر شخصاً واحداً مدداً لا حد أقصي لها. فإذا تغير الدستور وأصبح هناك حداً أعلي يُحترم لفترة حكم رئيس الجمهورية ، فإني أتوقع أن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بمعالجة الشيء الكثير من الفساد في مصر ، فقد يتواني بعض المفسدين عن فسادهم لعلمهم أن من يستندون إليه ، رأس النظام ، إلي زوال بعد عدد محدد من السنوات ، وسيجد الناس صعوبة في الإعتماد علي حِكمة الرئيس وتوجيهات الزعيم ، لأن الشخص إلي رحيل ، ولكن النظام وسيادة القانون إلي بقاء.
مشاكل مصر كثيرة ، فالهدم سهل وسريع والبناء صعب وبطيء ، ولكن التاريخ يعلمنا أنه لا يصح إلا الصحيح ، وما يبني علي حق لا يأتيه الباطل ، فهذه الثورة هي البداية الحقيقية للديمقراطية في مصر ، هي بداية الحياة الكريمة لكل مصري. الأن؟ طبعاً لا ، المشاكل كثيرة وعميقة ومن المستحيل حلها في يومٍ وليلة. مازال الطريق طويلاً ووعراً ، ولكن هذا الشعب ، الذي كسب ثقته بنفسه وثقتنا والعالم كله فيه في أقل من ثلاثة أسابيع ، لن يتوقف عن السعي الدؤوب لتحقيق إرادته ، للحاق بركب الأمم المتقدمة ، أياً كانت المعوقات ، ومهما كانت التحديات.
لن نثق إلا بأنفسنا ، لن نثق إلا بشبابنا ، ذهب إلي الأبد الخوف والخنوع ، ذهب التواكل ، ولم يتبق لنا إلا عُـصارة الحضارة التي لاتنضب ، والتاريخ الذي لا يكذب. العمل أمامنا كثير ، سنخطيء ونصحح ، سنتعثر وننهض ، ولكن الطريق واضح أمامنا ، وماهو إلا في إرتفاع إلي الأبد.
عاشت مصر رافعة الرأس ، عاشت بلد قد تنحني ، ولكنها لا تنهار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق